عبادة الله هي توحيده (خطبة)

485 مشاهدة

الحمْدُ للهِ الواحدِ القَهَّارِ، العَزيزِ الغَفَّارِ،أَحْمَدُهُ أَبلَغَ حمْدٍ وأَزكَاهُ، وَأَشمَلَهُ وأَنْمَاهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ البَرُّ الكَرِيمُ، الرؤُوفُ الرَّحيمُ، وأشهَدُ أَنَّ مُحمّداً عَبدُهُ ورَسُولُهُ، الهَادِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ، والدَّاعِي إِلَى دِينٍ قَويمٍ، صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَليهِ، وَعَلَى سَائِرِ المرسلين، وَآلِه وصحبَه، وسَائِرِ الصَّالِحينَ    أما بعد:

فيا معاشر الموحدين

اتقوا الله في السرِ والعلن وكونوا من المسلمين الموحدين فــــــــــــــــ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ ‌اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)﴾ [النحل: 128] .

عباد الله

 قال اللهُ تعالى: ﴿وَمَا ‌خَلَقْتُ ‌الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)﴾ .

قالَ أهلُ العلمِ والإيمان :”هذه الغايةُ، التي خلقَ اللهُ الجنَ والإنسَ لها، وبعثَ جميعَ الرسلِ يَدعونَ إليها، وهي عبادتُه، المتضمنةُ لمعرفتهِ ومحبتِه، والإنابةِ إليه والإقبالِ عليه، والإعراضِ عما سواه، وذلك يتضمنُ معرفةَ الله تعالى، فإن تمامَ العبادة، متوقفٌ على معرفةِ العبدِ بالله، بل كلما ازدادَ العبدُ معرفةً لربه، كانت عبادتُه أكمل، فهذا الذي خلقَ اللهُ المكلفين لأجله، فما خلَقَهم اللهُ لحاجةٍ منه إليهم، فمَا يرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا يرِيدُ أَنْ يُطْعِمُوه، تعالى الله فهو الغنيُ عن الحاجةِ إلى أحدِ بوجهٍ من الوجوه، وإنما جميعُ الخلقِ، فقراءُ إليه، في جميعِ حوائجِهم ومطالبِهم الضرورية والحاجيةِ وغيرِها، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} أي: إن اللهَ كثيرُ الرزق، الذي ﴿مَا مِنْ ‌دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾  ، وهو الله{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أي: الذي له القوةُ والقدرةُ كلُها، الذي أوجدَ بها الأجرامَ العظيمة، السفليةَ والعلوية، ونَفَذت مشيئتُه في جميعِ البَرِيات، فما شاءَ اللهُ كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يُعجِزهُ هاربٌ، ولا يخرجُ عن سلطانه أحدٌ، ومن قوته- سبحانه وتعالى- أنه أوصلَ رزقَه إلى جميعِ العَالم، ومن قدرتهِ وقوتهِ-سبحانه وتعالى-، أنه يبعثُ الأمواتَ بعدَ ما مزقَهم البِلى، وعصفت بِترابِهم الرياح، وابتلعتهُم الطيورُ والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في القِفَار، وفي لُجَجِ البحار، فلا يفوتُه منهم أحدٌ، ويعلمُ مَا ‌تَنْقُصُ ‌الأرْضُ من أجسادِ الأموات وما يبقى، ويعلمُ الغيبَ والشهادة، فسبحانَ اللهِ القويِ المتين.

معاشر المسلمين

فاللهُ الغنيُ ذو القوةِ المتين، وهو الرزاقُ الرحيم «وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» فما من أحدٍ يُؤلَه ويُعبدُ بحقٍ إلا الله {الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} فالذي يقهرُ جميعَ الأشياء هو الواحدُ جل وعلا الذي لا نظيرَ له، ولا ندَ له ولا مثيلَ له ،وهو الذي يستحقُ أن يُعبدَ وحدَه، كما كان قاهرًا وحدَه-سبحانه-.

 

 

معاشرَ المسلمين

فالواجبُ على جميعِ المكلفين وسائرِ المخاطبين أن يتوجهوا إلى اللهِ بالعبادةِ، ويدخلُ في العبادةِ الشرعية كلُ: ما شرَعَه اللهُ ورضِيَه، من الأقوالِ والأعمالِ، الباطنةِ والظاهرةِ، كمحبةِ اللهِ، وتعظيمهِ، وإجلالهِ، وطاعتهِ، والتوكلِ عليه، والإنابةِ إليه، والإستعانةِ به ،والذُلِ والخضوعِ له، ودعائهِ خوفاً وطمعًا، وسؤالِه رَغَباً ورَهَبا، وكذا كالنحرِ والنذرِ، فإنهما من أجلِ العبادات وأفضلِ الطاعات، وكذا كالطوافِ ببيتِه تعالى، وحلقِ الرأسِ تعظيماً وعبودية، وكذا سائرُ الواجبات والمستحبات.

فلا معبودَ بحقٍ إلا الله، فلا تَصلحُ أنواعُ العبادات والطاعات إلا للهِ جل وعلا.

كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2″3] .

فهذا هو التوحيدُ الذي جاءت به الرسلُ، ونزلت به الكتب، وخلقَ اللهُ من أجلهِ الثقلين.

عباد الله

واعلموا رحمكم الله أن العبادةَ إذا خالطَها الشرك، أفسدَها، وأبطلَها; ولا تسمى عبادةً، إلا مع التوحيد. قال ترجمانُ القران وحبرُ هذه الأمة ابن عباس -رضي الله عنهما-: “ما جاءَ في القرآنِ من الأمرِ بعبادةِ الله إنما يُراد بهِ التوحيد”. انتهى.

فحقُ اللهِ على العبادِ: أنْ ‌يَعْبُدُوهُ ‌وَحْدَهُ لا شريكَ له، ولا يُشركوا به شيئا، والشركُ في العبادة :هو صرفُ شيءٍ من أنواعِ العبادةِ لغير الله جل وعلا، ومن وقعَ في الشركِ الأكبر حَرمَ الله عليه الجنةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ –عياذا بالله- قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72].

والشركُ ينافي التوحيدَ ويبطلُه، كما قال تعالى لما ذكرَ حالَ خواصِ أوليائِه ومُقَربي رسلِه: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88].

وأخبرَ جل وعلا أنه لا يغفرُ الشركَ، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، وأخبرَ سبحانه أن المشركين لا تَنْفَعُهُمْ ‌شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، فقال تعالى في حقِ نبيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية، [سورة التوبة آية: 113] .

والشركُ قد عرفُه النبيٌ صلى الله عليه وسلم بتعريفٍ جامع، كما في حديث عبدِ الله ابنِ مسعود رضي الله عنه أنه قال: ” يا رسولَ الله: أَيُّ ‌الذَّنْبِ ‌أَعْظَمُ؟ . قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ} رواه الشيخان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-«مجموع الفتاوى» (1/ 88):

«وَالنِّدُّ: الْمثيلُ والشبيه. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} .

 فَمَنْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا مِنْ خَلْقِهِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَقَدْ كَفَرَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ» .

عباد الله

فَمنَ صرفَ شيئا من العباداتِ لغيرِ الله، فقد أشركَ به شركاً يُبطلُ التوحيدَ وينافيه، لأنه شبَه المخلوقَ بالخالق، وجعل المخلوقَ في مرتبةِ الخالق-عياذا بالله-، ولهذا كان الشركُ أكبرَ الكبائرِ على الإطلاق.

فعن أَبي بكرةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم: «ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ ‌الكَبَائِرِ؟» – ثلاثًا – قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ الله، قَالَ: «الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ»، وكان مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: «ألَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

أقولُ قولي هذا واستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ إن الله غفور رحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ ربِ العالمين ،والصلاةُ والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فياعبادَ الله

احذروا الشركَ صغيرهَ وكبيره، قليلهَ وكثيره، فلقد خافَ الشركَ الرسلُ والصحابةُ والصالحون، كما قالَ خليلُ الرحمن إبراهيم عليه السلام ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ ‌الْأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ﴾  .

قال أهل العلم –رحمهم الله-“فإذا كان الخليلُ إمامُ الحنفاء الذي جعلَه اللهُ أمةً واحدة ،وابتلاه ﴿رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ‌فَأَتَمَّهُنَّ﴾   وقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}، وأمرَ اللهُ إبراهيمَ بذبحِ ولدهِ فامتثلَ أمرَ ربهِ، وكسرَ ‌الأصنامَ بيدهِ واشتدَ نكيرَه على أهلِ الشركِ، ومع ذلك يخافُ أن يقعَ في الشركِ الذي هو عبادةُ ‌الأصنامِ لعلمهِ أنه لا يصرفُه عن الشركِ إلا الله بهدايتهِ وتوفيقهِ، لا بحولهِ هو وقوتهِ.

 وَمَا ‌أَحْسَنَ ‌مَا قَالَ إبراهيمُ التيمي-رحمه الله- عن خوفِ إبراهيم عليه السلام من الشرك قالَ: “ومن يأمنُ البلاءَ بعد إبراهيم”؟ .

لذا وقعَ في الشركِ الأذكياءُ من هذه الأمةِ بعد القرونِ المفضلة، فعبدوا غيرَ الله جل وعلا.

فالذي خافَه الخليلُ – عليه السلام – على نفسهِ وبنيهِ ،وقعَ كثيرٌ من الأمةِ فيه بعدَ القرونِ المفضلة ، فَبُنِيت المساجد والمشاهد على القبورِ، وصُرفت لها العباداتُ بأنِواعها، وعُظِمَ المقبورون من الأولياءِ والصالحين فأستغاث بهم كثيرٌ من الخلق من الروافضِ والصوفية وغيرهما، فقالوا: مدد مدد يارسولَ الله مدد مدد يا وليَ الله، اغثني يا حسين، ارزقني يا بدوي، وذبحوا للأمواتِ والجنِ والشياطين تقرباً إليهم كما يذبحون للهِ ربِ العالمين، فكم أُريقت من دماءِ بهيمةِ الأنعامِ والطيورِ والدوابِ على الأضرحةِ والمشاهد، وكم مُرغت من وجوهٍ عندَ الأموات والقبور وإنا لله وإنا إليه راجعون، واتخذوا الشركَ دينا كما اتخذُه قومُ نوحِ واللات والعُزى ومناة وغيرُهم-وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَفَنِّنُونَ فِي الْآلِهَةِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الشِّرْكِ؛ هَذَا يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَهَذَا يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَهَذَا يَعْبُدُ اللَّاتَ، وَهَذَا يَعْبُدُ الْعُزَّى وَهَذَا يَعْبُدُ ‌مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَعْبُدُ مَا يَسْتَحْسِنُ، وَكَذَلِكَ أخرُ هذهِ الأمةِ في عِبَادَةِ قُبُورِ الْبَشَرِ كُلٌّ يُعَلِّقُ عَلَى تِمْثَالِ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ.

 فما أشبَه ما وقعَ في آخرِ هذه الأمة بحالِ أهلِ الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم. بل وقعَ في المتأخرين ما هو أعظمُ وذلكَ في الشركِ في الربوبية مما يطولُ عدُه.

ولقد ذكر إبراهيمُ – عليه السلام – السببَ الذي أوجبَ له الخوف عليه وعلى ذريتهِ بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}  وقد ضَلت الأممُ بعبادة ‌الأصنامِ والأوثانِ في زمنِ الخليل وقبلَ زمنِه وبعدَه.

 

عباد الله

ومن تدبرَ القرآنَ عرفَ أحوالَ الخلقِ وما وقعوا فيهِ من الشركِ العظيم الذي بعثَ اللهُ أنبياءه ورسلَه بالنهيِ عنه، والوعيدِ على فعله، والثوابِ على تركِه، وقد هَلكَ من هَلكَ بإعراضهِ عن القرآنِ، وجهلهِ بما أمرَ اللهُ به ونهى عنه، نسألُ اللهَ الثباتَ على الإسلامِ والاستقامةَ على ذلك إلى أن نلقى اللهَ على التوحيدِ، إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه “ولا حول ولا قوة إلا باللهِ العلي العظيم “.

اللهم ثبتنا على التوحيد والسنة ،اللهم اجعلنا من عبادك الموحدين….

 


التعليقات مغلقة.

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أسامة بن سعود العمري © 2023
Made By Wisyst.com